كشف الرموز عن آية النّشوز
بِسْمِ الله الرَّحْمَانِ الرَّحِيمَ
*وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِضُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِِيلاً * صدق الله العظيم.(الآية 34 سورة النساء)
نزل القرآن الكريم في عصر يضطهد فيه الرجل المرأة يبتزّ حقوقها، يأكل أموالها، يدوس كرامتها ويجرّدها من كلّ قيمة إنسانية، فكانت طفلة تُوءد وزوجة تُورث.ولم يكن هذا الوضع حكرا على قوم دون آخر, بل كان متفشّيا في كثير من الأعراف السائدة في مختلف أرجاء المعمورة. ولربّما كان ضرب الزوج لزوجته في ظلّ هذه الأعراف لا يُعدّ اعتداءا ولا تعُدّه النّساء أيضا اعتداءا كما ورد ذلك في تفسير التحرير والتنوير لسماحة الشّيخ الطاهر بن عاشور.
ولقد سعت الأحكام القرآنية التي نظمت علاقة الرجل بالمرأة إلى إكساب المرأة حقوقا والعمل على حفظها من جهة، والحدّ من سيطرة الرجل المطلقة من جهة أخرى وذلك من خلال وضع هذه العلاقة في إطار إنساني صرف ملؤه المودّة والرّحمة وقوامه حسن المعاشرة. هكذا وبعد أن كان ضرب الزوج لزوجته وليد نزوة يتمّ بموجب أو بغير موجب، جاءت هذه الآية القرآنية الكريمة وفي إطار استثنائي بحت يخصّ النساء النّاشزات فقط وبصيغة الإباحة لا بصيغة الأمر وبعد استيفاء واستنفاد جميع الوسائل من قول وفعل (موعظة وهجر)، أَذن للزوج بإصلاح وزجر زوجته لقصد إقامة المعاشرة بينهما. والظاهر على حدّ قول الشّيخ الطاهر بن عاشور *أن محمل الإباحة بالضرب قد روعي فيه عرف بعض الطبقات من النّاس أو بعض القبائل ولربما كان ذلك لمراعاة أحوال دقيقة بين الزّوجين.1* يمكن استقراؤها في قول سيّدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه للأشعث بن قيس *...لا تسأل الرّجل فيما ضرب امرأته.2* رواه الإمام أحمد.
لقد أجمع المفسّرون بالاستناد إلى الأحاديث النّبوية الشّريفة واعتماد مقاصد الشّريعة على أن الغاية من إباحة الضرب هو التأديب والإصلاح لا إلحاق الضرر والأذى بالمرأة فهو ضرب خفيف {بالسّواك} لا يؤذي ولا يؤلم القصد منه الصّلح والمصالحة.
ونقول بما أن الضرب في حدّ ذاته خطير وتحديد حالات النّشوز أمر عسير من شأنه أن يفتح أمام الرّجل أو الزّوج على وجه الخصوص باب التعسّف على مصراعيه، وجب علينا إذن ضبط مصطلح النّشوز لتحديد طبيعة الأدب المطلوب.
اتفق المفسّرون على أن لفظ النّشوز يفيد الارتفاع، فالمرأة النّاشز هي المرتفعة على زوجها، التّاركة لأمره والمعرضة عنه، وإننا نرى في إعراض الزّوجة عن زوجها الصّورة الأكثر بيانا للنّشوز وتتجلّى هذه الصّورة أكثر بالرّجوع إلى أسباب النّزول والأحاديث النّبوية المتعلّقة بالآية الكريمة من جهة وباعتماد منطق القرائن من جهة أخرى.
1- تفسير التحرير والتنوير
2- تفسير ابن كثير
ففي أسباب النّزول يروى أن سعد ابن الرّبيع وكان نقيبا من نقباء الأنصار أعرضت عنه زوجته فلطمها فاشتكته إلى الرّسول صلّ الله عليه وسلّم فنزلت الآية الكريمة فاتّصل معنى النّشوز بإعراض الزّوجة
أما في الحديث فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صل الله عليه وسلم *إذَا دَعَا الرَّجلُ اِمْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ* ولهذا1 قال تعالى: "واللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ...." فانحصر معنى النّشوز في إطار إعراض الزّوجة عن الفراش.
وأما في تفسير الألوسي *روح المعاني* فقد جاء أن حرف في الّذي ورد في عبارة *وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ* يفيد السّببيّة أي اهجروهن بسبب تخلّفهنّ عن المضاجعة فقرينة المضاجع ترشد إلى أن النّشوز متعلّق أساسا بالفراش والجماع. ومادام الأمر كذلك فإنه علينا أن نتساءل عن الأسباب التي أفضت إلى هذا الإعراض وهجر فراش الزوجية. إن الأسباب متعددة ومتشعّبة، ولو حاولنا تعدادها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا, غير أنه يمكننا أن نختزل هذه الدوافع في ثلاثة أنواع أو أصناف من النساء. ومعنى ذلك أنه إذا اعتبرنا واو العطف التي وردت في الآية الكريمة تفيد الترتيب وتوحي للزّوج بالتدرج في انتهاج طرق الإصلاح الثلاثة من وعظ وهجر وضرب، فإن هذا النهج التدريجي لا يتناسب إلاّ مع حالة واحدة من النساء. لكن الخطاب بضمير الجمع في قوله تعالى"نُشُوزَهًُنَّ" وهو في حق النساء اللاتي لاحت عليهنّ بوادر النّشوز يمكن أن يفهم منه وجود عدة أصناف من النّساء أفردت الآية الكريمة لكل نوع منها حكما خاصّا بها مفصّلة كالآتي:
الموعظة : تخص الصنف الأوّل الذي يضمّ غالبية النّساء اللاتي حين يغضبن من أزواجهنّ تأخذهنّ العزّة بالإثم فيمتنّعن عن مضاجعة أزواجهنّ فأرشدنا الحق سبحانه إلى دعوتهنّ بالحكمة والموعظة الحسنة لعلمه سبحانه وتعالى أنّ الموعظة في مثل هذه المواضع هي الأرشد سبيلا فقال "فَعِضُوهُنَّ"
الهجر في المضجع ويهم النّساء اللاتي يهجرن أزواجهنّ في الفراش نفورا منهم إمّا إفراطا من الرجل في طلب المباشرة الجنسية أو تفريطا فيها.وفي كلتا الحالتين فإن الله تعالى دعانا إلى هجرها في الفراش فيكون ذلك تخفيفا لها في الحالة الأولى ومعاملتها بالمثل في الحالة الثانية تكسر شوكة الكبر والعناد في نفس المرأة. وقد يكون الهجر جفوة ضرورية للزوج المفرّط والمقصّر والذي لم يأخذ بزمام المبادرة الجنسية استلهاما من قوله تعالى* فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ* وذلك لمراجعة وتعديل سلوكه مع زوجته في هذا المجال.
الضّرب : وهو خاص بفئة محدودة من النساء اللاتي يتمنعن ويمتنعن عن مضاجعة أزواجهن عندما يفقدن ما يفترضن وجوده عند الرجل من قوة وفحولة في المباشرة الزوجية تختلف باختلاف البيئة والأعراف
• فهذا الحي من قريش يشرحون نساءهم شرحا و يتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات1
1 تفسير ابن كثير
ولك أن تذكر قول سيدنا عمر ابن الخطاب كما جاء في الصّحيح1 "كنّا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا"و في هذا يقول الله تعالى "نِسَاءُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّا شِئْتُمْ" صدق الله العظيم . "فَقِيلَ يَا رَسُولَ الله نِسَاءَنَا مَا نَأتِي مِنْهَا وَ مَا نَذَرُ؟ قَالَ حَرْثُكَ اِئْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيْرَ أَنْ لا تَضْرِبَ الوَجْهَ وَ لا تُقَبِّحْ وَ لا تَهْجُرْ إلا فِي البَيْتِ2"
و بناء على ما جاء في هذا الحديث و ما تقدم من بيان يمكن لنا أن نحدد إطار و مفهوم و طبيعة الضرب الذي ورد في الآية الكريمة :.
*الإطار هو المضاجعة أو المباشرة الجنسية
*المفهوم هو الجماع أو النّكاح كما جاء في لسان العرب لابن منظور يقال ضرب الفحل النّاقة أي نكحها.
*الطبيعة يمكن القول بأنه ضرب خفيف فيه دَلال على حد قول الشّيخ الشّعراوي3. أو نقول إنه ضرب مداعبة إن صحّ القول, لأن الضّرب إذا كان خفيفا غير مبرّح لا يؤذي ولا يؤلم وبالسّواك فقد يفقد جدواه و صبغته التأديبية.
هذا وإن ضرب العقاب والتأديب في هذا المجال قد لا ينسجم مع ما أحاط به المشرّع العلاقة الزوجية من معاني المودّة والرّحمة والسّكن و اللّباس و حسن المعاشرة. ففي أقصى حالات الجفاء بين الزوجين لم يسمح ولم يأذن المشرع للزوج بضرب امرأته فقال سبحانه وتعالى "فَإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" حتى في صورة إتيان الزوجة بالفاحشة لم يسلط الزوج على الزوجة ولكن أذن له في أول الأمر بحبسها حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلا 4, ثم أوكل الأمر للقاضي بإقامة الحد عليها ناسخا بذلك الحكم الأول. فإذا لم يسمح للزوج بعقاب و تأديب زوجته بالضرب في هذه الحالات فمن باب أولى وأحرى أن لا يؤذن له بإصلاح زوجته النّاشز بالضرب, وقد قال الرسول صل الله عليه وسلم "أَلا يَسْتَحْيِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ زَوْجَتَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي اللَّيْلِ" أخرجه5 عبد الرزاق عن عائشة رضي الله عنها, وقال عليه الصلاة والسلام "لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ6".
أما قوله تعالى "فَإنْ أََطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ الله كَانَ عَلِيًًّا كَبِيرًا" ففيه تهديد للرّجال إذا أولوا الضّرب على غير تأويله وبغوا على نساءهم. فالزّوج إذا تجاوز ما تقتضيه حالة النّشوز كان معتديا.
هشـــام الصدقاوي
والله أعـلـمُ
1- تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور
2- رواه أحمد وأهل السنن- تفسير ابن كثير
3- الفقه الميسر للشيخ الشعراوي
4- معنى الآية عدد 15 سورة النساء
5- روح المعاني للألوسي